ذات سنة.. ليست بعيدة جدا في بغداد، وبالتحديد عام 1996، اردت ان استفز الشاعر العربي الكبير محمد الفيتوري، وقد كان جمع من الشعراء العراقيين والعرب يحيطون به، ولا يمنحونه فرصة التحدث للاعلاميين الذي يحاولون ولا فائدة، كانت لديه الرغبة ولكن الشعراء المحتفين به يشغلونه عن ذلك، وكان لابد لي من سؤال استفزازي لكي ينتبه لي ويجيبني عن سؤالي او اسئلتي، فكنت ان رميت بهذا السؤال: هل يمكن للشعر ان يغير العالم؟، وبدون مغالاة.. انتبه الفيتوري اليّ، ومن ثم استدار نحوي كليا تاركا الجميع، وقال بهدوء: (انه سؤال يحتاج الى فسحة من التأمل، والى.. قعدة!!) ثم تناول مني الورقة والقلم وانتبذ ركنا هادئا، وراح يكتب بحروف كبيرة اجابة عن السؤال:
(لا استطيع ان ادعي ذلك، ان تغيير العالم يتطلب الكثير من الجهود، تغيير اقتصادي، تغيير سياسي، تغيير اجتماعي، وتلك مهمة بالغة الصعوبة، الصعوبة الى حد الاستحالة، ربما كان دور الشاعر التاريخي دور الشاعر الحقيقي، وهذا في اقصى درجاته قادرا على المساهمة، اعني المساهمة في تغيير الانسان، اعني المحاولة الدائبة للارتفاع بمستوى وعيه، مستوى ادراكه، فضح القوى الاجتماعية والسياسية التي تهيمن على مقدرات حياته، العمل على اعادة بناء الانسان، وانه من المؤسف ان اعود منذ القدم لأؤكد لك من جديد على صعوبة تحقيق هذا الهدف خاصة تحت ضغوط الظروف والعوامل التي ما فتأت تعمل على اطالة استعباد الانسان للانسان، ترى هل من الضروري الايماءة الى معطيات الواقع الحضاري والصناعي الجديد، اعني مكتسبات هذا الواقع المتمثلة في التطور التكنولوجي الهائل ومخلوقات عصر الفضاء، ومما سمي بالثورة الالكترونية وسيولة تدفق المعلومات).
استوقفني ذلك، الذي عدت اليه لأقرأه على الورق الاسمر ذاته الذي سطر عليه الفيتوري كلماته، ولازلت احتفظ به، وأعدت السؤال على نفسي: هل يمكن للشعر ان يغير العالم؟، اقول الشعر وأؤكد عليه، الشعر وليس سواه، وان استغرب البعض ذلك وقد وجد ان الشعراء في العالم قليلون، وان قراء وعشاق الشعر اقل؟!!، وطبعا لايمكن تصديق كل ما نسمع لان الشعر ما زال يرفرف بكلماته الطرية الشفيفة على قلوب الناس في كل ارجاء العالم، واذ اراني اصر عليه، فليس الا نوعا من الاستفزاز، تعالوا نقرأ في الفكرة، ولا نستغربها بل ندرسها ونعاينها وهي تحلق كالفراشة في اجوائنا، هل يمكن للعالم ان ينتبه في لحظة الى الشعر ويحاول ان يستعيد به ما فقده من جماليات الروح، وايقاعات الدهشة والمتعة، هل يمكن للعالم ان يتحول الى قصيدة، يتظللها الناس وتهب عليهم نسائمها ويستريحون من عناء الصخب والسرعة والاغاني الراقصة الراكضة ذات الايقاعات العديدة؟، وخزعبلات الفقر والجوع والعطش التي تنتاب العالم وتغرقه في العديد من المآسي، هذا العالم الذي تم تقسيمه الى دول شبعانة ودول جوعانة، دول غنية ودول فقيرة، بين اناس لم يبق فيهم سوى الجلد والعظم وبين اناس يشكون من البدانة والتخمة، العالم الذي يغتصب الاوزون من اجل انجاب بيئة ملوثة، عالمنا المتخم بالاحزان والويلات والالام، والذي اصبحت المادة فيه هي راسمال العلاقة بين الشعوب والافراد، هل يمكن للشعر هذا الطقس الجميل ان يغير طقوس العالم، ان يرش الماء البارد على سخونة الاجواء ويلطفها؟
هل يمكن ان نرى ما قاله شيللي: (إن الشعراء فلاسفة بلغوا أسمى درجة من القوة، وإن الشعر هو مركز كل معرفة ومحيطها)، ونحاول ان نقف عند الشعر وننظر الى العالم بمرآته، او يمكن الانتباه الى ماقاله الفيلسوف (فرناند الكييه) من: (إن الشعر في أعلى مستوياته ليس بخلق، ولكنه اكتشاف ووحي وعودة إلى حقائق أساسية، ورد واستبعاد لكل المظاهر، لكي نعود إلى الوجود، وتهديم للعالم المصنوع بعاداتنا، طموحاً للكشف عن عالم أكثر صحة، بحيث يمكن الخوف من أن تصبح الفلسفة هي التي تنسى مهمتها، في الحين الذي يظل فيه الشعر وفياَ لمهمته)، هل يمكن الاصغاء الى هذا الصوت لنستخرج منه ما نبحث عنه؟.
اذن.. لنرسم العالم..، ولنرسم الشعراء من حوله يسكبون قصائدهم بخلاصة محبتهم، فيسكبون الماء فوق كل بقعة مجدبة، ويحملون النور لكل مساحة مظلمة، ويزرعون الورد في الطرقات ليشم اريجها كل من خرج من دخان الحقيقة التي تحاصره، تعال نتخيل العالم وهو يتحول الى ايقاعات منضبطة وترانيم جميلة وموسيقى حالمة، تعال نسأل: هل يمكن ان يتغير العالم بالشعر؟
احمل السؤال الى الشاعر العراقي كاظم الحجاج، فيتأمله قليلا ثم يقول: ليس المقصود.. الشعر بمفهومه الفني اللغوي المجرد، انما الشعر بمعناه / الشعرية الروحية الانسانية التي تجعل الانسان بفضل وردة على شيء اثمن منها ماديا، الشعرية هي نوع من الرهافة موجودة في داخل كل انسان حتى وان لم يكن شاعرا، حتى وان كان قاسيا في اغلب لحظاته، الا ان لحظة (شعر) مفاجئة قد تقلب انسانا سيئا الى انسان شاعروتغيره، فالشعر بهذا المفهوم، ان وجد، وهو موجود حتما لابد ان انه سيغير شيئا من السوء وينظف الكثير من الفساد الذي يسود العالم الان.
وتوقف الحجاج ثم اكمل حديثه: ولكن المأساة.. ان العالم الان هو الذي غير الشعر، واقصد به عالم امريكا الذي قلب جماليات الكون وانسانيته الانسان وفلسفة الحضارات الى مخالب فولاذية قاسية.
اعاين الرأي من جوانبه واضع خطوطا تحت بعض الكلمات، ويسرني ما قاله الشاعر الحجاج من ان الشعر يجعل الانسان يفضل وردة على شيء اثمن منها ماديا، اعتقد ان هناك في العالم الكثيرون يفعلون ذلك، واحاول ان احلم بناس يزرعون الورد في مساحات حياتهم، ويملؤون الارض بالكلمات الطيبات التي لا تضع حدودا بين البشر، كلمات تجعل الجميع يتعانق محبة.
احاول ان اتخيل المنظر، ومن ثم ادفع بالسوال الى الشاعر جاسم بديوي / مدرس الادب الفلسفي في جامعة بغداد الذي اجاب قائلا على الفور: نعم يمكن للشعر ان يغير العالم!!، وحين لمح نظرة باسمة مني اضاف: نعم.. يمكن للشعر ان يفعل ذلك، لانه كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء، هذا اذا عرفنا انه كل شيء بدأ تكوينيا مع خيال الانسان الاول، فكان يصف الاشياء والعالم وصفا شعريا حتى يقرب الاشياء مقاربة.. اجمل!!.
وتوقف ثم رمى نظراته في الفضاء ثم قال: بربك.. كيف يبدو العالم بلا شعر، تخيل عالما بلا متنبي ولا جواهري ولا ادونيس ولا اليوت ورامبو، كيف يبدو؟، تصور.. موسيقى بلا شعر، لوحة بلا شعر، ما الذي سيقوله المحبون بعضهم لبعض؟.
جاسم بديوي قال بهدوء: بالشعر تتأسس القيم والاعراف والقوانين وجتة المجتمع، يتكون النظام، والنظام الشعري لهو اكثرالانظمة، لانه الاقرب للانسان، انه نظام الانسان بأمتياز، من الشعر نبدأ ونحترم الانسان وندين الوحشية ومن خلاله يتغير العالم.
احاول ان اتواصل مع الموضوع لانني اشعر انه شيق، ربما لانني احب الشعر ولا اجد انني استطيع ان اقرأ شيئا دونه، افكر ان اسأل كل شعراء الارض هذا السؤال، وان اسأل الغاوين ايضا، وان اسأل اخرين ممن لا علاقة لهم بالشعر، عسى ان اجد صدى لسؤالي الذي سأعود ثانية لأحمله وادور به.
الخميس أغسطس 14, 2008 9:13 pm